أفق، لبنان، دورية شهرية، تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، 1 يونيو 2024م، العدد 153

رسل عندما تخلى عن فيثاغورس

ربط الفيلسوف والرياضي البريطاني برتراند رسل (1872 – 1970م) أعظم تحوّل في مساره الفلسفي بشخص فيثاغورس الرياضي اليوناني الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، مطلقا عبارته الدالّة على ذلك قائلا: (عندما تخلَّيت عن فيثاغورس)، خاتما بها كتابه: (فلسفتي.. كيف تطوَّرت) الصادر سنة 1959م، والذي عدّه الدكتور زكي نجيب محمود (1905 – 1993م) وثيقة فريدة في تاريخ الفلسفة، تسجِّل تاريخا لفيلسوف كتبه بنفسه عن نفسه.
في خاتمة هذا الكتاب، وصف رسل تطوّره الفلسفي وصفا إجماليا مبيّنا أنه تراجع تدريجي عن فيثاغورس، حدث له منذ السنوات الأولى من القرن العشرين. فقد كان لفترة من الزمن ينظر بتلك النظرة الفيثاغورية، ووجد في طبيعة المنطق الرياضي بالصورة التي بدت له طبيعته آنذاك ما يرضيه من بعض النواحي الوجدانيّة إرضاء عميقا، وأدّى به هذا النوع من البحث تدريجا إلى مجالات أكثر تجريدا، دفعت به لأن يكره عالم الواقع، ووجد ملاذه في عالم لا زمانيّ ليس فيه تغيّر أو فناء أو سراب التقدّم.
وبتأثير هذا المنحى، أظهر رسل أملا بأن يكون في وسع العلم بأكمله أن يصبح رياضيا بما في ذلك علم النفس، مقدّرا في مقالة نشرها سنة 1907م، أنّ الرياضيات لا تتصف بالحق فحسب، لكنها تتصف كذلك بالجمال السامي، جمال بارد صارم كجمال النحت، لا يخاطب أي جانب من طبيعتنا الضعيفة، ويخلو من شرك الشعر والموسيقى الزاهية، فهو جمال خالص على سمو، ويبدي من الكمال الجهم ما لا يبديه إلا أعظم الفنون.
وبعدما بلغ رسل قمّة عالم التجريد الرياضي والمنطقي بحثا عن عالم الكمال والجمال، وتعاليا على ظواهر الشك والنقص، عاد مرة أخرى إلى عالم الواقع الإنساني وهمومه، تاركا عالم التجريد ومفاخره، منقلبا على الرياضيات ويقينيّاتها، فلم تعد الرياضيات تبدو له غير إنسانية في مادة بحثها فحسب، بل أصبح معتقدا أنها تتألف من تحصيلات حاصل، ويخشى أن تبدو الرياضيات بأسرها لعقل على قدر كاف من القوة تافهة تفاهة العبارة التي تقول إن حيوانا ذا أقدام أربع هو حيوان.
وبتغير هذه الحالة متوازنا مع ذاته، وجد رسل أنه فقد شيئا وربح شيئا أيضا، ما فقده هو الأمل في أن يجد الكمال والنهائية واليقين، وما ربحه هو التسليم ببعض الحقائق التي بدت له من قبل باعثة على النفور. وبقيت معه أشياء صاحبته من معتقداته السابقة، كاعتقاده أن الصدق يتوقف على نوع من العلاقة بالواقع، وأن الوقائع بوجه عام غير إنسانية. كما أن اليقين البديع بحسب وصفه، الذي مثّل له أملا دائما في أن يبلغه في الرياضيات كان قمينا بأن يجعله حزينا، لكن هذه الحالة بدأت تضعف عنده، وأخذت بمرور تنقضي.
والحدث الذي بدّد نهائيا حزن رسل ممّا فقده، هو حدث الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وكان من نتائجها أن جعلت من المحال على رسل مواصلة حياته في عالم التجريد، معلنا أن تغيّرا أصاب نظرته إلى العالم، خصوصا بعدما ظلّ يراقب الفتيان وهم يرحلون في قطارات نقل القوات العسكرية لكي يذبحوا على ضفاف نهر السوم في فرنسا، متألما بوجع على أولئك الفتيان. وبدا له أنّ تحليقه في عالم الأفكار المجرّد شيء هزيل، وأقرب إلى التفاهة بإزاء ما كان يحيط به من عذاب شامل.
لم يكتف رسل بهذا الموقف الشعوري المتألّم والغاضب، فقد انخرط بقوة في مناهضة الحرب وسياسة التجنيد كتابة وكلاما، عبر المقالات والمحاضرات، أدّت إلى دخوله السجن مرتين وتغريمه ماليا بموجب قانون الدفاع عن الأرض، وبقي على موقفه رافضا الحرب فكرة وسياسة، مقدّما أدبا في نقد الحرب، ناشرا عددا من المؤلّفات منها: (الحرب سليلة الخوف) صدر سنة 1915م، و(مبادئ إعادة البناء الاجتماعي وكيف نلغي المبارزة بين الأمم) صدر سنة 1916م، و(سياسة الوفاق)، و(العدالة في زمن الحرب) صدرا سنة 1918م.
أمام هذه الظاهرة الفكريّة والشعوريّة المتغيّرة التي قلبت سيرة رسل ومسلكيّاته الفلسفيّة، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولا: مثَّل رسل في علاقته بفيثاغورس إحدى صور العلاقة الحيّة بين الفكر القديم الذي يرتدّ إلى أزمنة ما قبل الميلاد، وتحديدا إلى القرن السادس، والفكر الحديث الذي يتصل بهذه الأزمنة الحديثة، وتحديدا بفترة الربع الأول من القرن العشرين وما بعدها. الأمر الذي يعني أن بإمكان الفكر اختراق التاريخ، وعبور الأزمنة الطويلة المقدّرة بين القرون البعيدة، والعصور الفاصلة بين ما قبل الميلاد وما بعده. وليس بمقدور الحداثة، مهما أوتيت من قوة أن تقف سدا في طريق حركة الفكر وديناميته في عبور الأزمنة الطويلة.
وحين ربط رسل فلسفته بشخص فيثاغورس، كان يعلم أنه ينتمي إلى عصر موصوف بالحداثة والحديث، في مقابل شخص ينتمي إلى عصر موصوف بالقدامة والقدم. ولا وجه للمقارنة بين هذين العصرين، فالعصور الحديثة جاءت ومثّلت انقلابا جذريا ونهائيا على تلك العصور القديمة، بما في ذلك الفلسفة والعلم والمنطق وحتى الرياضيات التي ربطت بين رسل وفيثاغورس.
مع ذلك لم يجد رسل في هذه العلاقة حرجا أو انتقاصا لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية الشعورية، كأن يقال عنه إنّه صاحب نزعة ماضويّة، أو ينتمي إلى فكر قديم، أو يسير عكس السير ويرتد إلى الوراء، أو يخالف إيقاع العصر ويخرج على أصول الحداثة. هذه الحالات وغيرها لم يوصم بها رسل، ولا أدري إن كانت قد خطرت على باله أم لا، بخلاف الحال في وضعيّاتنا وفي أدبياتنا العربية المعاصرة، المسكونة بهواجس القديم والحديث.
ثانيا: بقدر ما مثَّل رسل امتدادا قويا لفيثاغورس، مثّل كذلك قطيعة قوية معه في هذه الأزمنة الحديثة، فنحن أمام صورتين لهذا الفيلسوف اليوناني القديم عند رسل، صورة فيها إحياء وامتداد وتتحدّد زمنا في الطور الأول لدى رسل، وصورة فيها قطيعة وتوقف وتتحدّد زمنا في الطور الثاني منبعثا على إثر الحرب العالمية الأولى. لذا فإن العلاقة بين رسل وفيثاغورس تدرس من جهتين، لا من جهة واحدة فحسب. وبهذا يكون رسل قد مثَّل أقوى علاقة بفيثاغورس تقدما وتراجعا في تاريخ تطور الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة.
ثالثا: قبل فيثاغورس أعلن رسل تمرّده على الفيلسوفين الألمانيين الشهيرين كانت (1724 – 1804م) وهيجل (1770 – 1831م)، مفتتحا بهذا الأمر الفصل الخامس من كتابه: (فلسفتي.. كيف تطورت)، وقد عدَّ هذه الخطوة انقلابا إلى التعددية، مبتعدا عن الفلسفة المثالية الألمانية التي مثَّل كانت وهيجل أعلى مستوياتها، مقتربا خطوات من الدروب الواقعية. ولعل هذه الخطوة مهّدت لرسل تاليا طريق التخلي عن فيثاغورس، الذي قال عنه إنه بدأ متدرجا.
والسؤال: لماذا اختار رسل فيثاغورس البعيد عهدا للتعبير عن آخر تحولاته الفلسفية، وليس كانت أو هيجل القريبين عهدا منه، وهما الأشد تأثيرا في عصره، والأكثر شهرة في ساحة الفلسفة الغربية الحديثة؟ ولو حدث ذلك لكان الأمر أكثر وضوحا، بخلاف الربط بفيثاغورس الذي أوجد غموضا، خصوصا وأن فيثاغورس لم يعد حاضرا في ذاكرة الكثيرين، ولا يعرف عنه إلا الشيء القليل كونه ينتمي إلى عصر بعيد في التاريخ القديم، وليس مألوفا كثيرا في ساحة الجدل الفكري والنقاش الفلسفي عند الأوروبيين المعاصرين.
مع ذلك تقصّد رسل أن يربط آخر تحوّلاته الفلسفية بفيثاغورس، ولا شك أنه قد أثار دهشة بهذه الخطوة، واستدعت المساءلة لما لها من مفارقات لافتة، خصوصا من ناحيتي التاريخ والعصر المتفارقين زمنا وعلما. الدهشة التي كان من الممكن أن تغيب لو حدث هذا الربط عند رسل مع كانت أو هيجل، لأن هذه الخطوة عندئذ لن تكون جديدة، وتكرَّرت مرارا قبل رسل وبعده، وبات مألوفا في ساحة الفكر الأوروبي الحديث ظاهرة الخروج على كانت أو هيجل أو تجاوزهما، أو الابتعاد عنهما، أو الانقلاب عليهما، إلى غير ذلك من صور عدم التطابق أو التناغم أو التوافق.
والقدر الواضح في هذا الربط، أن رسل تعلّق بالرياضيات إلى درجة وصفه بالتصوف هما واهتماما، بالشكل الذي وجده بوجه خاص عند فيثاغورس الذي لم يكن بارعا في الرياضيات فحسب، بل اتخذ من الرياضيات منظورا له لرؤية العالم. ولعله أيضا أراد أن يربط نفسه بشيء بعيد عائدا إلى الجذور القديمة والمنابع الأولى لفكرة الرياضيات وعلاقتها بالعلم والحياة.
إلى جانب ذلك، حمل رسل انطباعا عظيما عن فيثاغورس، فقد أشار إليه في كتابه: (تاريخ الفلسفة الغربية)، رافعا منزلته في عالم الفكر قائلا: (إني لا أرى شخصا غير فيثاغورس كان له أثر يماثله في عالم الفكر، لأن ما يبدو لنا أفلاطونيا، نجده في جوهره عند التحليل فيثاغورسيا).
رابعا: هذا التحوّل الفلسفي الذي قلب مسلكيات الفكرية والاجتماعية لرسل، يمكن أن يفسر وفق مقاييس فكرية عربية معاصرة بطريقة غير محمودة ولا محبّذة، مندرجا في إطار الانتقال من أفق الإبستملوجيا الواسع إلى أفق الأيديولوجيا الضيّق، من عالم الاشتغال بالمعرفة وهمومها النظرية إلى عالم الاشتغال بالواقع وهمومه العملية، بما يعد تراجعا على مستوى إرادة المعرفة، وتغلبا على مستوى إرادة الأيديولوجيا.
وفي مقاييس عربية أخرى، يمكن أن يفسر هذا التحوّل في مسلكيات رسل بطريقة غير محمودة ولا محبّذة كذلك، كونه يمثل في نظر بعض هبوطا من وضعية المفكر المشتغل بقضايا العلم والمعرفة والبحث، إلى وضعية المثقف المشتغل بقضايا الواقع والعمل والحياة، استنادا إلى تفاضل النظر على العمل، وربط المفكر بعالم النظر وربط المثقف بعالم العمل. والمطلوب أن يصعد المثقف إلى وضعية المفكر، لا أن يهبط المفكر إلى وضعية المثقف.
علما أن هذا النمط من المقاييس بهذه الخشية، لا يشار إليه إلا في المجال الفكري العربي الذي يعاني من طغيان الأيديولوجيا وتراجع المعرفة. ولا يشار إليه بهذه الخشية في المجال الفكري الغربي الذي لا يعاني لا من طغيان الأيديولوجيا ولا من تراجع المعرفة. ومن ثم فلا خشية على رسل من التخلي عن فيثاغورس.

زر الذهاب إلى الأعلى